الأقسام:

الدعاء في شهر رمضان - محمد باقر الصدر

الدعاء في شهر رمضان - محمد باقر الصدر

والمرء هنا يطالعه حشد عظيم من الأدعية القصيرة والطويلة حسب اقتضاء المقام والتي ضمنها القادة المعصومون المفاهيم الكثيرة الصحيحة، والتلقينات العقائدية الصافية، والإيماءات التربوية العالية، وذلك لتهيئة الذهنية لكي تدرك الشريعة ككلم ترابط لا تنفصل أجزاؤه عن بعضها وهو يساهم كل المساهمة في عملية الرفد للجو القدسي .

والمساهمة هذه تتناسب طردياً مع مقدار التفاعل مع المعاني الحية في الدعاء من قبل الداعي... هذا بالإضافة إلى أن الدعاء في نفسه يشبع جوعات ذاتية في الإنسان. والحقيقة هي أن مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) يحفل برصيد عقائدي تربوي أخلاقي ضخم متضمن في الأدعية الواردة عنهم (عليهم‌السلام) في شتى المجالات.

ويمكننا أن نعرض ـ بإيجاز ـ نوعية المساهمة التي يقوم بها الدعاء في رفد شعور الصائم على صورة نقاط هي:

أ ـ تهيئة الجو الروحي، والصفاء القلبي الذي يجعل النفس مستعدة تماماً لتقبل عطاء الصوم.
ويكون هذا تارة بتوفير الجو الذي تعود فيه الروح إلى طفولتها الصافية فتبكي،وتتضرّع و تشكو و تعفر الخد و تتململ وتستعطف، انها حينذاك تعبّر عن ضعفها أمام الجبار الخالق، وهو الضعف الوحيد ـ كما يعبر أحد الكتاب الكبار ـ الذي يشعر معه المرء بالاعتزاز، فيقوم الدعاء بتوفير مهمة التعبير عن هذه الحالة.

سيدي أنا الصغير الذي ربّيته، وأنا الجاهل الذي علّمته، وأنا الطفل الذي هديته، وأنا الوضيع الذي رفعته،وأنا الخائف الذي أمنته*.

*إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد، ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرّض، ولا لوعيدك متهاون. لكن خطيئة عرضت، وسوّلت لي نفسي،وغلبني هواي، وأعانني عليها شقوتي*.

وتارة اُخرى بالدفع إلى التوبة وتطهير النفس:

*أدعوك ـ يا سيدي ـ بلسان قد أخرسه ذنبه، ربّ أناجيك بقلب قد أوبقه جرمه، أدعوك يارب راهباً راغباً راجياً خائفاً، إذا رأيت ـ مولاي ـ ذنوبي فزعت، وإذا رأيت كرمك طمعت. فإن عفوت فخير راحم، وإن عذبت فغير ظالم*.

*وما أنا يا رب؟ وما خطري؟ هبني بفضلك،وتصدّق عليّ بعفوك*.

ولا يستطيع الحرف أن يعبر عن لحظات العروج النفسي الرفيع... في سكنات الليل البهيم، والسحر الهادئ الصامت حيث تنهال الدموع، وتتكسر الكلمات على الشفاه، وتتصاعد الآهات والاعترافات للخالق المنعم، انها قمة الاستعطاف من العبد في جوّ هو القمة في القرب من المولى:

*اللهمّ إنّي كلما قد تهيأت، وتعبّأت، وقمتالصلاة بين يديك، وناجيتك، ألقيت عليّ نعاساً إذا أنا صلّيت، وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت. ما لي كلما قلت: قد صلحت سريرتي، وقرب من مجالس التوّابين مجلسي; عرضت لي بلية أزالت قدمي، وحالت بيني وبين خدمتك، سيدي لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحّيتني، أو لعلّك رأيتني مستخفاً بحقّك فأقصيتني، أو رأيتني معرضاً عنك فقليتني، أو لعلكوجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلّك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني...*.

ب ـ الاشتراك مع باقي أقسام روافد الشعور في الإشارة إلى ما توحي إليه.

ففي مجال القسم الأول نراها تلقن الداعي أن يقول: *وقد أوجبت لكلّ ضيف قِرىً وأنا ضيفك فاجعل قراي الجنّة*.

وبالنسبة للقسم الثاني نجدها تؤكد ما ذكرناه في أغلب المواطن:

فهي تربيفي الإنسان هذه الإرادة، وتدفعه لطلب العون على النفس دائماً:

*وأعنّي على نفسي بما تُعين به الصالحين على أنفسهم، واختم عملي بأحسنه*.

وهي تذكّره بالنعمة، وتدفعه لحمد الله وشكره عليها:

*إلهي ربّيتني في نعمك وإحسانك صغيراً، ونوّهت بإسمي كبيراً، فيا من ربّاني في الدنيا بإحسانه وتفضّله ونعمه، وأشار لي في الآخرة إلى عفوهوكرمه، معرفتي يا مولاي دليلي عليك، وحبّي لك شفيعي إليك*.

وهي تنمي لديه الحس الأخلاقي بالمواساة والتعاطف و مشاركة الآخرين في عواطفهم و مشاعرهم:

*اللهمّ أدخل على أهل القبور السرور، اللهم أغن كلّ فقير، اللهمّ أشبع كلّ جائع، اللهمّ اكسُ كلّ عريان، اللهمّ أقضِ دين كلّ مدين، اللهمّ فرّج عن كل مكروب...*.

وتجعله يستعين باللهمن النواقص:
*اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكسل والفشل والهم والجبن والبخل، والغفلة والقسوة، والمسكنة والفقر، والفاقة وكلّ بلية*.

وهي تذكر الإنسان بيوم القيامة و أهله بتصوير رائع في دعاء السحر:
*فما لي لا أبكي... أبكي لخروج نفسي... أبكي لظلمة قبري... أبكي لضيق لحدي... أبكي لسؤال منكر ونكير إياي... أبكي لخروجي من قبري عرياناًذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرّةً عن يميني، واُخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني، لكلّ امرئ يومئذ شأن يغنيه، وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة، ووجوهيومئذ عليها غبَرَة ترهقها قَتَرة. اللهمّ إني أسألك خشوع الإيمان قبل خشوع الذل في النار*.

وهي تؤكد في النفس الإخلاص التام:
*وأبرِئ قلبي من الرياء والشك والسمعةفي دينك حتى يكون عملي خالصاً لك*.

*ولا تجعل شيئاً مما أتقرب به في آناء الليل وأطراف النهار رياءً ولا سمعةً ولا شراً ولا بطراً*.

وهي بتربيتها العقائدية تركز معنىالعبودية المطلقة له تعالى:
*الحمد لله الذي لم يتّخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذلّ، وكبّره تكبيراً، الحمد لله بجميع محامدهكلّها على جميع نعمه كلّها، الحمد لله الذي لا مضادّ له في ملكه، ولا منازع له في أمره، الحمد لله الذي لا شريك له في خلقه، ولا شبيه له في عظمته، الحمد لله الفاشي في الخلقأمره وحمده الظاهر بالكرم مجده...*.

إلى ما هناك من تأكيدات لا يحصيها هذا الكتيب.

ج ـ الإيحاء بالترابط بين الكل الإسلامي فيقول الداعي مثلاً (وليلة القدر، وحج بيتكالحرام، وقتلاً في سبيلك فوفق لنا...).

د ـ الإيحاء بالرجوع إلى الركنين الأساسين اللذين هما منبع كل هداية، وفرقان كل شيء، والثقلين اللذين لن يفترقا إلى يوم القيامةوهما (القرآن والعترة) وبذلك تتوضح الأسس فتتوضح تبعاً لذلك خطوط البناء.

أما القرآن فقد مرّ الحديث عنه، يتلوه الصائم مرات ومرات، بوعي كامل و تفاعل تام، ويتصاعد الوعي حتى يبلغ القمة ليلة القدر، وهنا يطلب الدعاء من الإنسان أن يرفع القرآن على رأسه بعد أن يقول:

*اللهمّ إنّي أسألك بكتابك المنزل وما فيه، وفيه إسمك الأكبروأسماؤك الحسنى، وما يخاف ويرجى، أن تجعلني من عتقائك من النار*.

ويبقى يحمل القرآن لينتقل الدعاء إلى التذكير بالركن الثاني فيطلب إليه في هذه الحالة أن يقول: *بك ياالله، بمحمد، بعلي، بفاطمة...*.

وهكذا إلى باقي الأئمة (عليهم‌السلام) يردد كلّ كلمة عشر مرات في حالة لا يمكن أن توصف من الجلال والخشوع.

كما أنا نلاحظ كثرة التركيزعلى (الصلاة على محمد وآل محمد).

وان في هذه العبادة لمعطيات جمّة تدور في إطار شد الاُمة إلى قادتها الحقيقيين، الذين يعني الانشداد إليهم الانشداد إلى الإسلامالصافي النقي ومنابعه الأصيلة.

وأخيراً فان الدعاء يذكر الإنسان الصائم باليوم المنتظر فتراه يدعو وعيونه مركزة على ذلك اليوم الموعود (يوم المهدي المنتظر):

*اللهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنياوالآخرة*.

الإنتاجات
k